كيف وقع العميل الروسي في الأسر؟ رحلة ثالثة إلى لبنان.. والمهامّ تصوير وحرق وفتح أقفال
يبدو العدوّ الإسرائيلي كأنه يعيش تحت ضغط كبير، وخصوصاً من الناحية الأمنية الاستراتيجية، ما يدفعه الى القيام بعمليات لا تعكس أبداً الاحترافية التي كان يتمتع بها سابقاً. ودلّت السنوات الماضية على فشله في الوصول الى أهداف كثيرة، وبات يعمد الى تنفيذ عمليات هدفها تسجيل نقاط.
آخر المواجهات التي عكست مشكلة العدو تمثّلت في استعانة الاستخبارات الإسرائيلية بمواطنين أجانب، جرى تجنيدهم مقابل المال، وإرسالهم الى لبنان للقيام بأعمال تستهدف المقاومة الإسلامية... ليتبيّن أن جهاز أمن المقاومة كان في انتظارهم، وعمل على مواكبتهم حتى اللحظة الأخيرة، وهو ما حصل في حالة الروسي الذي أوقفه الأمن العام أثناء محاولته مغادرة لبنان، بعد فشله في تحقيق هدف كلفه به مشغّلوه الإسرائيليون.
وبحسب معلومات «الأخبار»، فقد وصل المواطن الروسي الى لبنان قبل نحو شهر، ترافقه سيدة روسية وطفلة عمرها سبعة أشهر. وقد نزل في أحد فنادق العاصمة، قبل أن يتوجه بعد أيام الى الضاحية الجنوبية لبيروت، قاصداً أحد الأحياء بالتحديد، ليتبيّن لجهاز أمن المقاومة الذي كان يراقبه أنه كان يحاول تحديد أحد المكاتب الخاصة بالمقاومة، لكن لم يجر العمل على توقيفه فوراً، بل ترك يقوم بمهمته لمعرفة الغاية التي جاء من أجلها.
التوجه الى الضاحية جاء بناءً على توقيت حدده العدو في أيام عاشوراء، إذ يبدو أن العدو افترض بأن بعض المقارّ الخاصة بالمقاومة يتم إخلاؤها خلال ساعات معينة، ارتباطاً بالمجالس العاشورائية. وقد استعان العميل الروسي بإحداثيات زوّده بها مشغّلوه، ما مكّنه من الوصول الى المنشأة المستهدفة بسهولة ودقة، وعمل على فتح الباب الخاص بها، ليكتشف أن هناك باباً ثانياً تعذّر عليه فتحه، فغادر عائداً الى مقر إقامته. وبعد فشله في تحقيق هدفه، وجدت المقاومة أن هناك ثغرة يجب سدّها، ما اضطرّها الى التنسيق فوراً مع جهاز الأمن العام لتوقيفه. وجرى تزويد الأمن العام بصورة للرجل مع التأكيد أنه موجود في لبنان للقيام بعمل أمني ضد المقاومة. بناءً عليه، كلفت قيادة الأمن العام فريقاً من ضباطها بالمهمة، وجرى استخدام صورته للتعرف على جواز سفره، بعد التدقيق في الداتا الخاصة بالوافدين الى لبنان. ومن ثم رتّبت خطة أمنية سمحت لعناصر الأمن العام في المطار بتوقيفه مع السيدة التي كانت معه والطفلة لدى محاولتهم العبور من مركز الجوازات إلى باب الطائرة.
بعد نقل الموقوفين الى أحد مراكز الأمن العام، بدأت التحقيقات وعمليات التدقيق في أوراق الرجل، وشاب الغموض في المرحلة الأولى طبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة، ولكن تأكد للمحققين بأنه اصطحبهما معه للتغطية على نشاطه وإبعاد الشبهات عنه. وفي الأيام العشرة الأولى من التحقيق، واظب العميل الروسي على نفي كل ما اتهم فيه، وأكد أنه كان يتجول بصورة عادية، وأنه ربما أخطأ في الاقتراب من بعض الأمكنة، وأنه لا يعلم أبداً عن وجود حزب الله هناك.
وفي الفترة الأولى من التحقيقات، نفت المرأة علمها بأيّ شيء، وكانت تكرر ما قاله الرجل، الى أن وجد المحققون وسيلة لتغيير مسار التحقيق، فأبلغوا المرأة بأن المعلومات ثابتة وأكيدة، وأن صمتها يعني أنها شريكة له في الجرم الذي يرتكبه، وستصدر بحقها أحكام أكثر قساوة نتيجة صمتها، وأنه سيتم عزلها عن الطفلة التي ستسلّم الى إحدى دور رعاية الأطفال، ما جعلها تنهار، وتعترف بأنها كانت على علم بما يقوم به الرجل، وأنها ليست المرة الأولى التي يزور فيها لبنان، إذ سبق له أن زار بيروت عامَي 2021 و2022، ولكنها المرة الأولى التي ترافقه فيها. وقالت إنها لا تعلم على الإطلاق بما الذي يقوم به، لكنها شاهدته بعد وصولهم الى بيروت، كيف أمضى يوماً طويلاً في الفندق يتدرب على فتح أقفال من نوع معين من دون إحداث ضجيج.
الاعتراف والتجنيد
إثر ذلك، واجه المحققون العميل الروسي بالمعطيات الجديدة، إضافة الى بعض الأمور الأخرى، فأقرّ بأنه جاء الى لبنان في مهمة معينة، نافياً علمه بهوية المشغل وأكد الاتي:
أولاً: أنه مواطن روسي يعمل في عالم الأقفال وكيفية التعامل معها، وأنه يعرض سيرته الذاتية على مواقع التواصل الاجتماعي وخدماته لمن يرغب.
ثانياً: أنه تلقى رسائل من جهات لا يعرفها، عرضت عليه العمل. ومن ثم تواصل مع الجهة التي لم يقدر على تحديد هويتها، لكنه قبل ما عرضته عليه من عمل ضمن مهمة مطابقة لمهنته مقابل المال.
ثالثاً: طلب إليه السفر الى بيروت في المرة الأولى عام 2021 لتصوير بعض الأمكنة في الضاحية الجنوبية في بيروت، زاعماً أنه لم يكن يعرف أنها تخص حزب الله، وأن من طلب منه القيام بالمهمة لم يشر إليه بأن الأمر يتعلق بالحزب.
رابعاً: أنه زار لبنان ثانية عام 2022، وطلب إليه التوجه نحو مكان فيه منشأة تجارية للتأكد من وجود مولد كهربائي وجرافة، وأن يعمل على حرق المولد والابتعاد عن المكان. لكنه اكتشف وجود إجراءات وكاميرات مراقبة فأبلغ مشغليه بتعذر التنفيذ.
خامساً: أن المشغل كان يرسل إليه مبلغاً من المال قبل السفر، وأنه كان يتلقى الأموال عبر تحويلات، وأنه وُعد بمبلغ كبير في حال تنفيذه المهمة التي كانت مقررة في زياته الأخيرة.
ادخل واتصل بنا
وعن هذه المهمة، أقر الموقوف الروسي بأن مشغليه زوّدوه بمعطيات حول الهدف المقرر أن يصل إليه، وحددوا له التوقيت، وأطلعوه على صور تخصّ نوعاً من الأقفال، وطلبوا منه التدرب على فتحها بطريقة خاصة، وفي وقت سريع، وأن يعمد بعد دخول المنشأة الى الاتصال بهم عبر هاتف كان بحوزته، ليبلغه المشغلون بما هو المطلوب حينها، مؤكداً أنه لا يعرف شيئاً عما يوجد في هذا المكان، وليس عنده أي تقدير حول ما الذي كان مطلوباً منه تنفيذه.
وروى الموقوف كيف انتقل الى الضاحية، وكيف استعان بالإحداثيات الموجودة لديه، ووصل الى المكان، وبعد تثبته من دقة العنوان، توجه الى الباب المقفل، وبدأ عملية فتحه بواسطة أدوات خاصة كانت بحوزته، لكنه واجه صعوبة، ما جعله يستهلك نحو ساعة من الوقت قبل أن ينجح في فتح الباب، لكن صدم عندما وجد أن الباب يقوده الى باب آخر، وباشر عملية تفحصه، والتمعن في نوع القفل الموجود في الباب الثاني، قبل أن يبدأ محاولة فتحه. لكنه سمع فجأة بعض الأصوات القريبة منه، فارتبك، وتصرّف على أساس أنه سيتم كشفه، فجمع أغراضه وغادر الموقع مستقلاً سيارة تاكسي الى الفندق حيث يقيم، وهناك، عمل على جمع أغراضه وقرر السفر. ولم يكن يعلم أنه بات تحت أعين عناصر الأمن العام الذين تثبتوا من هويته وجواز سفره، وانتظروه عند نقطة الجوازات حيث تم توقيفه قبل صعوده الى الطائرة عائداً الى روسيا.
استراتيجية الإغراق
وفي السياق نفسه، تحدثت مصادر معنية بملف مكافحة التجسس الإسرائيلي عن «استراتيجية إغراق» يعتمدها العدو، حيث تظهر التحقيقات المباشرة مع الذين تم التواصل بهم، من قبل العدو مباشرة أو من خلال جهات مجهولة ومشبوهة، أن المئات قد شملتهم حملة التجنيد الواسعة التي تقوم بها أجهزة استخبارات العدو. وبعد توسع جميع الأجهزة الأمنية الرسمية الى جانب جهاز أمن المقاومة في ملاحقة هؤلاء، يتضح يوماً بعد يوم أن العدو اعتمد سياسة تهدف الى تحقيق جملة أهداف:
- توفير أكبر تغطية بشرية لعمله الأمني في لبنان، وهو انتقل من مرحلة الاختيار الدقيق والتدريب المكثف والتيقّن من قدرة العميل على تحقيق الهدف، الى مرحلة الاختيار العشوائي من عيّنة يختار من بينها ما هو مناسب له. وقد اعتمد في السنوات الخمس الماضية على برنامج التواصل من خلال مواقع التواصل الاجتماعي أو مراكز طلبات العمل، مع عدد كبير من الشباب الذين يرى العدو أنهم مستعدون للمغامرة تحت ضغط الحاجة الى العمل أو المال. وفي وقت لاحق، ركز العدو على مجموعة يمكنها الوصول الى بيئة وأماكن عمل ووجود المقاومة، سواء من أشخاص يمكنه تشغيلهم في لبنان مباشرة، أو بعض الذين سافروا الى الخارج بحثاً عن عمل بمردود مالي كبير. كما ركز على المجموعة التي تسكن في مناطق المقاومة أو أولئك الذين تربطهم علاقة قربى بعناصر أو مسؤولين في الحزب، إضافة الى عدد من الشباب الذين سبق أن شاركوا في عمل المقاومة في لبنان أو سوريا.
لكن عشوائية العدو لم تعد تقيم وزناً للعميل نفسه، إذ تظهر التحقيقات والاعترافات بأن المبالغ المرصودة لهؤلاء قليلة جداً قياساً الى ما كان العدو يعمل به سابقاً، إضافة الى تكليفهم بأعمال مختلفة، بينها ما يقع في باب التدريب أو الاختبار أو حتى الحصول على معلومات مهمة ومباشرة على الأرض.
لكن، ثمة ما يشير إلى توتر العدو في إدارته لهذا الملف، وخصوصاً أنه تبيّن مع الوقت أن الفريق الذي يعمل في مواجهة برامجه، بات يملك فكرة وافية عن طريقة عمله، وقد لاحظ العدو مرات كثيرة أن المقاومة أو الأجهزة الأمنية اللبنانية تعمل على إعادة تشغيل بعض العملاء، أو الاستفادة منهم في جمع معطيات تخص المشغّل أو حتى عمليات التضليل الواسعة. ويبدو أن مستوى التنسيق بين المقاومة والقوى الأمنية الرسمية بلغ مستوى عالياً، رغم أن لكل من هذه الأجهزة خصوصيته وطريقته في العمل على مواجهة التجسس الإسرائيلي، ولا سيما أن العدو لن يتوقف عن هذا العمل، كما لن تتوقف جهود القوى المضادة له.
العميل الروسي اسمه يوري ريناتوفيتش تشايكن، مواليد 13 آذار 1977، يحمل جواز سفر صادراً عن السلطات الروسية رقمه 788232809 بتاريخ 26 تموز 2022 وصالحاً لغاية عشر سنوات. المرأة المرافقة له تدعى ليليا ألكسندروفيا تشايكن، مواليد 3 آب 1979، تحمل جواز سفر صادراً عن السلطات الروسية رقمه 770535099 بتاريخ 16 حزيران 2023 وصالحاً لغاية عشر سنوات. أما الطفلة فتدعى صوفيا يوريفنا تشايكن من مواليد 7 كانون الثاني 2023، تحمل جواز سفر صادراً عن السلطات الروسية رقمه 770512324 بتاريخ 7 حزيران 2023 وصالحاً لغاية عشر سنوات.
وقد تواصل جهاز الأمن العام مع السفارة الروسية في بيروت، فأكدت صحة الوثائق الموجودة بحوزة الموقوفين، ويتابع مندوب عن السفارة التحقيقات، وسط مساع كبيرة لإطلاق المرأة والطفلة والسماح لهما بمغادرة لبنان الى موسكو. وقد أبلغ الأمن العام السفارة الروسية أنه ينتظر استكمال بعض التفاصيل قبل الحسم بعدم وجود دور للمرأة في مهمة العميل الذي سيحاكم في لبنان.
التعليقات على الموضوع